دليل إدارة الوثائق ومدد الاستبقاء

طريقة إعداد جداول مدد استبقاء الوثائق

يتطلب إعداد جداول مدد استبقاء الوثائق نوعين من الخبرات: خبرة مستخدمي الوثائق ودرايتهم بها وبطرق العمل المتعلقة بها من ناحية وخبرة أخصائيي الوثائق من ناحية أخرى الذين يتولون تأمين الجانب الفني لإعداد الجداول.

وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى الصعوبة التي قد تعترض فريق العمل المختص بهذه المهمة والمتمثلة في خلط الموظفين بين إجراءات العمل الإداري والوثائق الناتجة عن ذلك. في بعض الحالات عوض أن نجد قائمة واضحة لأنواع الوثائق التي يتكون منها الملف، يقوم الموظف الذي يجري الكشف عن الوثائق بوصف الإجراءات الإدارية التي يتبعها عند مباشرة المسألة المتعلقة بالوثائق، بينما الذي يهمّ أخصائي الوثائق هو ذكر الوثائق الناشئة عن ذلك. على سبيل المثال عوض أن نقول أخذ رأي الوزير في موضوع ما يجب أن نقول مذكرة أو ملحوظة عمل موجهة إلى الوزير. فترى الموظف يسرد الأعمال التي يقوم بها ويجب على الأخصائي أن يترجم ذلك إلى عناوين ومسميات الوثائق الناشئة عن عمل الموظف.

ولتحديد مدد استبقاء الوثائق، يستوجب الأمر التعرف على الوثائق وتحديد قيمتها وصلاحيتها بالنسبة لمنشئيها ومستخدميها في فترة أولى ثم قيمتها بالنسبة لأي استعمال آخر ولأي غرض دون الغرض الذي أنشئت من أجله . وتسمى القيمة الأولى "القيمة الأولية" وهي تتدرج على مرحلتين : فترة نشطة للوثائق والملفات وفترة شبه نشطة. وتوافق الفترة النشطة المدة اللازمة لاستبقاء الوثائق والملفات بمكاتب العمل كوثائق جارية حيث يكون استخدامها متواترا إلى أن تعالج المسائل والأعمال المتعلقة بها، بينما توافق الفترة شبه النشطة مدة حفظ الوثائق والملفات كوثائق وسيطة. وبخصوص "القيمة الثانوية" للوثائق والمتمثلة في استعمالها لغرض دون الغرض الذي أنشئت لأجله، يتم تقييم إمكانية استخدام الوثائق والملفات لأغراض البحث العلمي والإبداع الأدبي والفكري وغير ذلك من الأعمال المتعلقة بالذاكرة والتراث وما إلى ذلك من استعمال.

وبالنسبة إلى تقدير وتثمين القيمة الأولية بغرض ضبط مدد الاستبقاء، لا أحد يمكن أن يعوض مستخدمي الوثائق وهم أدرى بكل ما يتعلق بصلاحيات الوثيقة وطرق استخدامها والمدد اللازمة لاستبقائها. لكن قبل ضبط هذه المدد يجب التثبت من النصوص القانونية المتعلقة بموضوع الوثيقة المعنية لمعرفة ما إذا كانت هناك أحكام قانونية قد نصت على فترة تقادم أو مدة قانونية لاستبقاء هذه الوثيقة. وفعلا نجد في بعض القوانين، مثل القانون المتعلق بالتجارة، أحكاما تتعلق بالوثائق المتصلة بالمعاملات تشير إلى حفظ بعض الوثائق عددا من السنوات. وعند قراءة هذه النصوص يجب التفطن إلى طريقة بناء النص القانوني حيث إن المشرع عادة ما يؤكد على الإجراء ولا يقصد مباشرة الوثائق المرتبطة بذلك. فعندما ينص القانون على أن أجل التقاضي في مادة معينة يكون بثلاث سنوات يجب أن يفهم الأخصائي أن فترة استبقاء الوثائق المتعلقة بهذا الإجراء لا ينبغي أن تقل عن ثلاث سنوات.

فكلما وجدنا أحكاما من هذا النوع يتعين أخذها وجوبا بعين الاعتبار وضبط مدة استبقاء الوثيقة المعنية على أساسها. إلا أن النصوص القانونية لم تميّز في مدة التقادم بين فترة نشطة وفترة شبه نشطة، وهذه الآليّة تخص مجال الوثائق ولم تطرح على المشرع. لذا، يتعين على فريق العمل المكلف بإعداد جداول مدد استبقاء الوثائق أن يقوم بتقسيم المدة القانونية بين الفترة النشطة والفترة شبه النشطة.

وبعد التثبت من النصوص القانونية، يمكن اللجوء إلى المقارنة مع مدد الاستبقاء التي اعتمدتها دول أخرى بالنسبة إلى وثائق مماثلة. وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن التنسيق في مدد استبقاء الوثائق المماثلة بين الدول أصبح أمرا ضروريا في عصر العولمة. فقد انتشرت طرق موحدة لإدارة المؤسسات والمشاريع عبر العالم عن طريق الشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الحكومية العالمية وخاصة نظام الأمم المتحدة، وتم تنميط العديد من الوثائق خاصة مع نمو استخدام المواصفات والمقاييس الدولية تحت إشراف المنظمة العالمية للمواصفات (ISO). وقد يكون من المفيد أن تسعى المنظمات المهنية والمجلس الدولي للأرشيف بالخصوص إلى بذل جهود في هذا الاتجاه لما لهذه المسألة من انعكاس طيّب على التعاون بين الدول في هذا المجال خاصة بالنسبة للدول النامية التي هي في حاجة ماسة إلى إرساء نظم لإدارة وثائقها.

إلى جانب اعتماد مدد الاستبقاء الواردة بالنصوص القانونية والقياس بالمدد المستخدمة في دول أخرى، يجب على منشئ الوثائق والمتعاملين معها التعويل على خبرتهم وتقاليد عملهم لضبط مدد الاستبقاء بالنسبة للفترة النشطة وشبه النشطة. وفي هذا الصدد، يسهل على هؤلاء تحديد الفترة النشطة لأن كل موظف يستخدم وثائق يعرف عادة بكل دقة متى تنتهي فترتها النشطة أي متى يغلق الملف بعد إجراء الأعمال المطلوبة منه.

ولا يجب مجاراة الموظفين الذي يريدون حفظ الوثائق بمكاتب العمل مدة أطول مما يستوجبه العمل العادي للمرفق، لأن انعكاسات ذلك غير طيبة، فتتكدس الوثائق وقد لا يتسنى للموظف الرجوع إلى الوثيقة المطلوبة عند الحاجة بكل سرعة ودقة، بينما يمكّن حفظ الوثائق الوسيطة لدى المختصين من الرجوع إليها بسرعة فائقة. ثم إن تكدس الوثائق بمكاتب العمل له كلفة باهظة حيث تحتل الوثائق مساحات كبيرة على حساب الفضاء المخصص للموظفين، وعادة ما تكون قيمة الإيجار لأماكن العمل أرفع بكثير من تلك المتعلقة بالأماكن المعدّة لخزن الوثائق.

ويلاقي أغلب الموظفين صعوبة في تحديد الفترة شبه النشطة خاصة إذا علموا أن مصير الوثائق بعد ذلك يكون الإتلاف، فترى بعضهم يتهرب من تحديد مدة الحفظ الانتقالي للوثائق أو يقترح مدة طويلة من الزمن تغطي فترة النشاط المتبقية له في الوظيفة. وفي ظل غياب تقاليد في هذا المضمار، يجب أخذ عدة احتياطات من ذلك البحث لدى قدماء الموظفين عن أنواع الحالات التي استوجبت الرجوع إلى الوثائق الوسيط ومدّة السنوات التي مضت على إنشائها، كما تتم دراسة قضايا النزاعات أمام المحاكم لمعرفة نوعية الوثائق المستندة في ذلك وتواريخ صدورها. بالاعتماد على هذه الوضعيات وبالرجوع إلى القيمة القانونية للوثائق، يمكن تحديد مدد استبقاء منطقية ومعقولة.

ولا يجب كذلك مجاراة الموظفين في جنوحهم نحو حفظ الوثائق مدة أطول من اللازم لأن النظام يفقد مصداقيته فيصبح خاضعا لأهواء الأشخاص وتصرفاتهم الشخصية وليس لمعايير وضوابط منطقية وعلمية. إلا أنه يمكن في بعض الحالات تمديد مدة الحفظ الانتقالي بالنسبة إلى الوثائق التي سوف يكتب لها الحفظ الدائم لكنها لا تتاح للعموم إلا بعد مدد حددها القانون: (ثلاثين أو ستين أو مائة) سنة من تاريخ نشأتها. وينطبق الوضع على الوثائق الصادرة عن الجهات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية والقضائية التي قد تحتاج إلى وثائقها لمدة طويلة وعادة ما تكون لهذه الوثائق صبغة سرية. ولطمأنة هذه الجهات يمكن إدراج مدة طويلة لحفظ الوثائق تحت مسؤولية الجهة المنشئة لها.

إن المعايير والآليات المعتمدة في تقييم مدد استبقاء الوثائق لا ترتبط بطبيعة أوعيتها فهي تخص الوثائق الورقية والوثائق الإلكترونية على حد السواء. وبخصوص الحفظ، إذا كان الملف المعني بالأمر يتضمن بعض الوثائق الإلكترونية فيمكن سحبها على الورق حتى يكتمل تركيب الملف أو حفظها في شكل إلكتروني وفقا للقواعد والإجراءات المناسبة.

وبخصوص المصير النهائي للوثائق، يخضع تقييم الوثائق وتثمين قيمتها الثانوية إلى معايير مختلفة وأكثر صعوبة. بما أن الأمر يتعلق بتقدير قيمة الوثيقة لاستعمالها في غرض دون الذي أنشئت من أجله، قد تختلف وتتنوع هذه الأغراض. ويمكن لمنشئ الوثيقة تقديم اقتراحات حول المصير النهائي للوثيقة، لكن هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية هي المؤهلة أكثر من غيرها لتحديد المصير النهائي. وتعتمد في ذلك على عدة طرق أهمها:

  • التواصل أي حفظ نفس النوع من الوثائق والملفات التي تحفظ عادة.
  • القياس أي المقارنة مع ما يحصل لنفس النوع من الوثائق في البلدان الأخرى.
  • استشارة المستفيدين أي الباحثين المختصين في المجالات التي تهم الوثائق.

ومهما يكن من أمر، فإنه يجب إجراء انتقاء شديد نظرا لضخامة حجم الوثائق الورقية وذلك رغم انتشار الوثائق الإلكترونية. فلا يمكن الحفظ بصفة دائمة لنسبة كبيرة منها. وتتراوح نسبة المحفوظات بالنظر إلى جملة الوثائق المنشأة في جل الدول المتقدمة من 4 إلى 7 بالمائة على أكثر تقدير.

تظهر هذه النسبة وكأنها ضعيفة، لكن إذا اعتبرنا حجم الوثائق التي تضاف سنويا إلى المخزون الوطني، ندرك أهمية وضرورة إجراء انتقاء شديد لحفظ الوثائق المهمة فحسب. لذلك أصبحت مسألة تقييم الوثائق وانتقائها وظيفة أساسية بالنسبة لأخصائي الوثائق حيث إنه ينحت ملامح الذاكرة الجماعية للبلد وله مسؤولية حضارية ثقيلة في اختيار الوثائق التي تدلّ على نشاط الأجهزة الرسمية وإنجازاتها وتجعل الماضي في خدمة الأجيال القادمة.

تؤدي عملية تقييم الوثائق إلى ضبط مدد استبقائها والمصير النهائي الذي تؤول إليه. وتؤدي النتيجة بالنسبة إلى كل نوع من الوثائق والملفات إلى بناء قاعدة الحفظ وهي تتألف من مدة الاستبقاء كوثيقة جارية ومدة الحفظ كوثيقة وسيطة والمصير النهائي الذي تؤول إليه. وتجمّع قواعد الحفظ حسب تقسيمات الهيكل التنظيمي للجهات الخاضعة لقانون الوثائق والمحفوظات في شكل جدول. وتؤلف هذه الجداول أداة عمل تحتوي على العناصر التالية:

  • مقدمة تضع العمل في إطاره العام وتبرز السياسة المتبعة في مجال نظم المعلومات والأهداف الخصوصية من إدارة الوثائق وتحث الهياكل المعنية بالحرص على تنفيذ النظام الذي تم وضعه مبينة الفائدة من ذلك.
  • تقديم لطريقة بناء الجداول وقواعد الحفظ وكيفية استعمالها للبحث عن القاعدة المناسبة للوثيقة أو الملف.
  • قائمة بالمصطلحات الفنية الواردة بالجداول وشرح مفهومها لتيسير استعمال الجداول.
  • قائمة قواعد الحفظ في شكل جداول مرتبة حسب تقسيمات الجهة.